في المنشور السابق ، تناولنا المحرّكات الصاروخية وركّزنا على نمط عمل المحرّك الصاروخي الكيماوي ذي المادة الدافعة الصلبة (كذلك النوع ذو المادة الدافعة السائلة). إنّ أحد الفروق الأساسية بين النوعين هو الأداء: بشكل عام تكون أداءات "المحركات السائلة" أفضل من أداءات "المحركات الصلبة". سوف نركّز في المنشور الحاليّ على سؤال بديهيّ: كيف يتم قياس أداءات المحرك الصاروخي؟
سنُجيب عن هذا السؤال من خلال القياس والمقارَنة بين محركات السيارات. عندما نقوم بتحليل محرّك سيّارة، بصورة عامّة نقوم باختبار خاصَّتَين أساسيَّتَين: القوّة واستهلاك الوقود. تُعتبر قوة السيارة (تُمَثَّل بواسطة القدرة والعزم) هامّةً لكي تقوم السيارةُ بعملها كما ينبغي (مثلًا، أن تسير بسلاسة في الطلوع إلى كرميئيل وأثناء ذلك يشتغلُ المكيّف الهوائي في الصيف). يُعتبر استهلاك الوقود مُهمًّا نظرًا لأسباب اقتصادية: نرغب أن ندفع مبلغًا أقل من المال لأجل المرّات التي نسافر فيها بالمركبة.
بخُصوص الصاروخ أيضًا، نحن معنيّون بهاتين الخاصّتين: القُوّة (الدفع – بلغة مهنية) ومدى نجاعة المحرِّك. هناك أهمية لقوّة الدفع، وما نحتاجُه منها في الصاروخ يشابِه ما نحتاجه منها في السيّارة. على سبيل المثال، إنّ التحرُّر من جاذبية الكرة الأرضية، والتسارُع حتى الوصول إلى سرعة مدارية، يتطلّبان قوة دفعٍ كبيرة، بل أكبر من تلك المطلوبة صعودًا إلى كرميئيل مع مكيّف في الصيف. يتم قياس الدفع بصورة بسيطة: يُقاس كقوة. الوحدات التي تمثّل الدفع هي وحدات نيوتن، أو طن-قوة.
ليس الهدف من تحسين نجاعة عمل المحرّك هو الادّخار الإقتصاديّ، وإنّما هو التوفير بالمكان والوزن. شرحنا، في المنشور السابق، كيف أنّ المحرِّك الصاروخيّ يشتغل عن طريق حقن/قذف المادة الدافعة إلى الخلف. ولهذا السبب، تحتل المادة الدافعة حيّزًا كبيرًا وتمثِّل أغلبَ كتلة الصاروخ. في الصواريخ التي تُطلَق إلى الفضاء، تشكّل الحمولةُ المفيدة أقل من %5 من كتلة الصاروخ الابتدائية. بينما ما تبقّى من كتلة الصاروخ يمثّل بالأساس المادة الدافعة والمكوِّنات الهامّة لتخزين وحَقْن المادة الدافعة (حاويات، مضخات، وما شابه). ممّا يعني أنّ هناك أهمية ذات أولوية، في تصنيع محرّك ناجع قدرَ الإمكان، من أجل إتاحة المجال لإعلاء حمولات أكبر إلى الفضاء. كيف نقيس نجاعة المحرّك؟ لكي نفهم هذا، سنعود إلى نمط عمل المحرك؛ لنتذكّر أنّ الدفع ينتُج بفِعل حَقْن المادة مدفوعةً إلى الخلف. إذن سيكون ما يلي مقياسًا جيّدًا للنجاعة: "كم هي قوة الدفع التي نحصل عليها من وحدة كتلة للمادة الدافعة؟". هذا المقياس يُعتبر منطقيًّا، إذ كلما زاد الدفع لكل وحدة كتلة هكذا نربح أكثر؛ يمكننا أن نأتي بكمية أقل من المادة الدافعة وهكذا يكون بوسعنا تنقيص الكتلة الإبتدائية للصاروخ.
بماذا يتعلّق الدفع؟ الدفع هو حاصل ضرب التدفّق الحجمي (كمية المادة الدافعة الخارجة من الصاروخ لكل وحدة زمن) في سرعة المادّة الدافعة عند الخروج. وبالتالي لكي تتحقّق لنا نجاعةٌ عالية للمحرّك، يجب أن يتم نفث المادة الدافعة بسرعة عالية. إنَّ سرعة المادة الدافعة عند الخروج، هي سرعة حرجة [1]، ويمكن لتغيُّرات طفيفة تحدُث فيها أن تؤدي إلى تغيُّرات كبيرة في كمية المادة الدافعة المتطلَّبة لأجل تنفيذ مَهمّة الصاروخ.
إنّ المقياس المقبول لقياس النجاعة، هو ليس السرعة، وإنّما الاندفاع النوعي (Specific Impulse أو Isp باللغة الإنجليزية) [2]. الاندفاع النوعي هو خارج قسمة سرعة الخروج من المُحرِّك على تسارع جاذبيّة الكرة الأرضية، والوحدات التي تمثِّله هي وحدات زمنية (ثوانٍ). من المُريح استخدام الثواني لأجل أداءات المحرِّك، بحيث لا تُجرى أي تغييرات في هذا الاستخدام بين هيئات مختلفة من الوحدات.
يتعلّق الاندفاعُ النوعيّ في الصواريخ الكيماوية بشكل الفوّهة، الضغط ودرجة الحرارة داخل حُجرة الاحتراق. يتغيّر الاندفاع النوعي مع الارتفاع: كلّما ابتعدنا عن الأرض، تزداد قيمة الاندفاع النوعيّ (ومعها تزداد قوة الدفع). تجدون هنا شرحًا إضافيًّا حول فئات من الاندفاع النوعي [3].
إذن، ما هي المواد التي تُستخدم في الصواريخ الكيماوية، ولماذا؟ في الصواريخ الحديثة ذات الوقود الصلب، في هذه الأيام، بالأساس يتمّ استخدام خليط من مادّةِ Hydroxyl-terminated polybutadiene على اعتبارها وقودًا [4]، وَ Ammonium perchlorate على اعتبارها مؤكسِدًا [5]. إنّ الدمج بين هاتين المادتين يمنحنا ما يشبه المطاط وهو المادة الدافعة. إنّ أداءات هذه المادة عالية نسبيًّا (يمكن الوصول إلى اندفاعٍ نوعيّ مقدارُه 250s، وهذا أعلى بكثير ممّا نحصل عليه عند الدمج بين مواد صلبة أخرى)، وصفاتُها الحركية جيّدة، وتُعتبر مادةً دافعة منخفضة الحساسية، حيث لا داعي هنا إلى توفُّر وسائل صارمة من الأمان والسلامة عند التعامل معها. أحيانًا يُضاف إلى الخليط عنصرُ الألومنيوم: معادن تشتعل في درجات حرارة عالية جدًّا، وبهذا فهي تُرقّي أداءات المادة الدافعة.
في الصواريخ ذات الوقود السائل، لدينا تشكيلة أوسع. لقد اشتغلت الصواريخُ العمليّاتيّة الأولى التابعة للألمان (V-2 التابع للألمان [6]) بواسطة الكحول والأكسجين السائل. في يومنا هذا، في الكثير من الصواريخ يتمّ استخدام خليط من هيدروكربون معيَّن (بشكل عام كيروسين الطيران) وأكسجين سائل. الأفضلية الكامنة من عملية الدمج هذه، هي تحقيق أداءات لا بأس بها (اندفاع نوعيّ يبلُغ 280-300 ثانية) ومواد من السهل نسبيًّا التعامُل معها.
لدينا حالة أُخرى من الخلط وهي دَمْج الهيدرازين ومُشتقّاته مع حمض النتريك. تُشبِه أداءاتُ هذه المواد أداءات الكيروسين والأكسجين السائل، ولكنها تمتلك أفضليةً واحدة واضحة جدًّا: هي عبارة عن مواد هيبرجوليكية (hypergolic materials – مواد تشتعل في حال لامست الواحدةُ الأخرى) [7]. هذا يوفِّر علينا وجود نظام إشعال، ويُتيح لنا أن نشعل من جديد محتوى المحرّك وبسهولة أكبر. مع ذلك، إنّ أغلب المواد الهيبرجوليكية تُعتبر موادًا فظيعة ومروِّعة من الخطير جدًّا، ومن الصعب جدًّا، التعامُل معها، ولهذا السبب ورُويدًا رويدًا يتوقّفون عن استخدامها.
إنّ حالة الدمج ذات الأداءات الأفضل، هي دمج الهيدروجين مع الأكسجين، وقد كانا شكَّلا المادّةَ الدافعةَ التي استُخدمت في المحرّكات الرئيسية للمكّوكات الفضائية. بلغت قيمة الاندفاع النوعي لهذه المحركات 366 ثانية. بالإضافة إلى الأداءات الجيّدة، إنّ ناتج الاحتراق هو بالأساس الماء. الجانب السلبيّ من هذه المحرِّكات، هو التعقيد: يبقى الهيدروجين في حالته السائلة، فقط حتى 253 درجة مئوية تحت الصفر. كذلك فإنّ كثافتُه منخفضة نسبيًّا، بحيث نحتاج هنا إلى سعةٍ (حجم) كبيرة لأجل تخزينه. هل الأداءات الناجمة عن هذا الدمج هي جيّدة بما يكفي؟ أو بدلًا من ذلك، هل توجَد أنواع أخرى من المحرِّكات الصاروخية؟
سنتحدّث عن ذلك في الفصل القادم.
تأليف: الدكتور ڤيكتور تشيرنوڤ